"اليوم، بكره، بعد بكره، بعد عام .. يبي يطيح قناع وجه المقنّع
ما تخفي الأيام تبديه الأيام .. لا شع نور الحق، غاب التصنّع"
*
أحمد بن الحسين بن الحسن الجعفي، أحد شعراء زمانه، توفي قبل 1067 عاماً، وما زالت قصائده حيّة، يستشهد بها الناس، في مواضع الفخر، والهياط، والمدح، والهجاء، وقد كان -الله يبيحه- من النوع اللي إذا مدح غرّق، وإذا ذم حَرّق.
قصائد المدح، لا مشاكل معها، مهما بالغ فيها الشاعر، حتى لو كانت من ورىٰ التريلات، ومهما زوّد ملحها، وإن كانت القصيدة كلها كذب، من أول شطر، لآخر تقفيله، إنما المشاكل تأتي مع الهجاء، حتى ولو كان في محله، فما بالك إن كان كذبا، أو فيه مبالغة، أو تجنّي، أو شتيمةٍ مستفزة، بحق صيرميٍّ يقدر يردها لك مثنيّة، ومربوعة.
أيضاً تأتي المشاكل، مع الهياط، اللي مهو على فعل، فحين يحضر الموقف، يغيب التصنّع.
صاحبنا الجعفي هذا، كان قد هجىٰ رجلاً، وسب أمه، فغضب أخوها، وأقسم أن يقتله، ان تمكن منه، وإن طال الزمن، اليوم، بكره، بعد بكره، بعد عام.
دارت الأيام، وتمكن الصيرمي من أبو لسان طويل، في بيداءٍ ما حولها مَزبن، ولا متارس، ولا حدود ومطارات، ولأن الشاعر أحمد يعرف شجاعة، وقوة، وفروسية، وإمكانات خصمه، فما كان أمامه من سبيل إلا الهرب، وعدم مواجهة مصيره المحتوم.
فلما ابتعد مسافة جيدة، وأيقن بالسلامة، قال له خادمه الذي كان يرافقه؛ كيف تهرب، وتتقي، وتترك العرب تتندر منك، وأنت القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم.
قال أحمد: قتلتني قتلك الله، فعاد وواجه خصمه، ومات، عسى الله يبيحه.
المتنبي أحمد بن الحسين، كان يفاخر، ويعتد بنفسه، ويهايط، في السّعهْ، فلما جاء الصحيح، وحضر الموقف، وحان وقت المواجه، هرب في أول الغارة، ومات في آخر الغارة.
*
مع ظهور تويتر، واندلاع الثورات، وتزايد المظاهرات، وخُطب الندوات، رُفعت الشعارات، وكبرت الهقوات، وارتفع أدرينالين الهياط عند كثير من الجعفيّة، فركبوا خيولهم، وسلّوا سيوفهم، وحَدّوا ألسنة حداد، وما خلّوا أحدا ما هجوه، فجعلوا أخاهم المواطن "انبطاحيا"، وزميلهم النائب "خروف"، و"مندوب"، و"صبي"، ورجال الشرطة "مبرقعات"، و "أدوات قمع"، وتدرّجوا في الهجاء، وبالغوا، وحرّقوا، حتى وصلوا راس الهرم.
دارت الأيام، وتمكن الخصوم الصيرميّة، من الهجّاية الجعفيّة، في بيداء تعرفهم، ويعرفونها، ولأنهم يدركون ضعف إمكاناتهم، أمام قدرات خصومهم، فما كان أمامهم من سبيل سوىٰ الإنسحاب التكتيكي، وخيار عدم المواجهة.
فلما ابتعدوا، وأيقنوا بالسلامة، قال لهم أصحابهم؛ أفاااا، وين المبادئ؟ والكرامة، وعزة النفس؟ وين الشعارات؟ وين ما نبالي؟ وين أقسم بالله؟ وين الخيل تعرفني، والبيداء لعبتي؟ قالوا: (ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدا).
*
لذلك نقول: من لا يستطيع أن يحمي كلمته، ويلتزم بما يقطعه على نفسه من وعود، وعهود، عليه أن يمسك لسانه، ويربط حصانه، ويجلس في مكانه، ويحشم نفسه، ولا يروح للبيداء، ثم يواجهه شيء ما يقواه، فنقول بعدها؛ الله يبيحه!
*
ولذلك نقول:
لا تتحمّس مع الشاعر إذا مدح.
ولا تصدق المرشّح، والحزبي ولو حلف.
واحذر تخاوي اللي يحرّم الديك ويشرب مرقته.
ولا تزعّل عيال عمك، وربعك، علشان شخصية سياسية لها موقفين متناقضين من قضيتين متماثلتين.
واثنين من الناس لا تناقشهم؛ اللي يرفع صوته لإيصال فكرته، واللي إذا حمىٰ وطيسه في النقاش قام يزحف عن مكانه.
وانتبه، إذا مدحت لا تغرّق، واذا ذميّت لا تحرّق، واجعل لك خط رجعه، في كل مرحلة.
⁃ وكانك رجال محنّك تروح الصبح وتعود.. تعرف طعامٍ يجرح الحلق قبل انك تذوقه.
*
خلاصة القول:
ما تخفي الأيام، تبديه الأيام.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق